إعلان بيجين… أبعد من المصالحة الفلسطينية

الياس مخايل المر

خبير في العلاقات الدولية

يأتي اجتماع الفصائل الفلسطينية في هذا التوقيت الدقيق من المرحلة التي تمرّ فيها منطقة الشرق الأوسط والعالم والأحداث والتطورات السياسية والعسكرية، تأكيداً على دور الصين البارز والمتصاعد على الساحة الدولية، لتؤكّد الصين من خلال هذه الدعوة أنّها شريك فاعل وموثوق لكثير من الأطراف والجهات المحلية والدولية.

تأتي هذه الدعوة في الوقت الضائع أميركياً إبان انسحاب الرئيس بايدن من السباق الرئاسي، وما تركه من تداعيات على الداخل الأميركي، وإبان مجموعة غير قليلة من الإخفاقات الواضحة في السياسة الخارجية على مستوى حل النزاع، حيث تقيّم أوساط أكاديمية سياسية، أنّ الدور الأميركي تحول في العالم من وسيط فاعل في حلّ النزاعات الدولية الى طرف في العديد الغالب منها.

 

إدراك ويقين…

 

دعوة الصين للفصائل الفلسطينية، دليل إدراك بمكامن الخلل الفلسطيني. إذ تشكّل الخلافات والانقسامات الداخلية العقبة الأساسية ونقطة الضعف المركزية للقضية الفلسطينية. فمن غير المقبول أن تستمر هذه الخلافات الداخلية تحت نير الاحتلال وما يقترف بحق الشعب الفلسطيني من جرائم، خصوصاً في المرحلة الأخيرة في غزة والضفة الغربية. ويقيناً من الصين أنّه لن تكون هناك بداية حل الّا بعد إتمام المصالحة والوحدة الداخلية بين الشعب الفلسطيني عبر الفصائل المتناحرة، لا سيما الأكبر حجماً على المستوى الشعبي حركتي «حماس» و«فتح».

 

محاور المبادرة الرئيسية

 

تستند المبادرة الصينية على مبدأ «تعزيز الحوار» بين الفصائل الفلسطينية كمدخل لحل النزاعات في ما بينها، وكمدخل للوصول الى الوحدة في النظرة الاستراتيجية حول القضايا المصيرية التي تخصّ الداخل وحقوق الشعب في تقرير المصير، وهنا يكمن السؤال أي مصير في ظل الانقسام والخلاف على كل شيء؟

 

ويأتي «دعم التنمية» في صلب المبادرة الصينية. إذ أنّها اليوم تُعتبر الاقتصاد الأول في العالم، وأنّها القادرة على مدّ الشعب الفلسطيني ما يحتاجه من المساندة المادية والاستثمار في المقومات الأساسية التي انعدمت في ظل الحصار والعدوان. ويأتي هذا الطرح للدعم في ظل انكفاء الغرب عن التمويل والقدرة على الاستثمار والضخ المالي، تحت وطأة أكلاف الحرب الأوكرانية والأزمات الاقتصادية التي تعصف بمعظم الدول والركود الاقتصادي المتمادي والمستمر منذ أزمة كورونا.

 

«التنسيق الدولي» من إحدى الركائز الأساسية في السياسة الصينية. إذ لا تسعى الصين بالانفراد في الحلول للمشاكل الدولية، بل تسعى، بالرغم من الصعاب والعقبات، الى التعاون والتنسيق على الساحة الدولية مع القوى الأساسية والفاعلة كالولايات المتحدة والدول الأوروبية، ولكن من دون التوقف على مدى تعاونهم. إذ إنّها تطلب التعاون ولا تعلّق مصير المبادرات عليه. وهذا ما شهدناه جلياً في المصالحة الكبيرة التاريخية بين السعودية وايران.

 

حل الدولتين…

 

انّ مبدأ حل الدولتين يُعتبر من الأسس الرئيسية في حل القضية الفلسطينية، إذ لا يمكن إنكار حق الشعب الفلسطيني في الحصول على دولة كاملة الأوصاف، ولا يمكن من باب الواقعية السياسية التي قبلت بها الدول العربية من خلال مبادرتها في قمة بيروت، أن تلغي فكرة قيام دولة اسرائيلية. الّا أنّ المشكلة تكمن في شكل هذه الدولة وحدودها وعاصمتها. إذ تنكر اسرائيل من خلال سياسة الاستيطان، والتمدّد وعزل غزة عن الضفة الغربية، تعمل بكل الوسائل لمنع قيام دولة فلسطينية، وأتمّت هذه الإرادة مؤخّراً من خلال تصويت الكنيست على منع القبول بأي حل يقوم على مبدأ الدولتين، الّا أنّ أهمية المبادرة الصينية، أنها تقوم بالأساس على حلّ الدولتين، ولكن دون هذا البند معضلتان:

 

الأولى اسرائيلية، في رفضها المبدئي لحل الدولتين، والثانية فلسطينية، إذ ترى بعض الفصائل أنّ القبول بدولة اسرائيلية غير واردٍ ويتنافى مع مبادئها السياسية والدينية العقائدية. الّا أنّ تخطّي كل من فتح وحماس الممثلين البارزين للشعب الفلسطيني هذه العقبة، يفتح الباب في بيجين وغيرها للحوار حول هذا الموضوع، إذ أنّ موقف فتح مرن من الأساس،

 

فيما ترى حماس وعلى لسان أحد المسؤولين البارزين في جناحها السياسي، أنّ الحركة توافق على دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967، دولة مكتملة الأركان والسيادة دون اعتراف «بالعدو الصهيوني» ولا «بأحقيته على الأراضي التاريخية لفلسطين» و «دون التنازل عن الأراضي التاريخية لفلسطين» مقابل هدنة طويلة. ويرى المصدر أنّ المشكلة تكمن في رفض الجانب الاسرائيلي لهذه الشروط.

 

اذاً هناك شروط مشدّدة على الموافقة، الّا أنّها موجودة ويمكن البناء عليها، والعمل على تليينها من قبل الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي، الّا أنّ المهمّ في الأمر بالنسبة لبيجين، تخطّي معضلة الرفض المبدئي لحل الدولتين من قبل بعض الفصائل الفلسطينية، وبالتالي تبقى المعضلة هذه، من الطرف الاسرائيلي، وهذا الأمر متروك لأوانه وللحوار مع واشنطن صاحبة القرار الأساسي في هذا الملف لناحية الموقف الاسرائيلي، إذ إنّه عندما تحين ساعة التسوية الكبرى سيلحق الموقف الاسرائيلي بالموقف الأميركي الداعي أساساً الى حل الدولتين، والبدء بتحقيقه. ولكن يبقى السؤال، أي دولتان وما مصير القدس والمقدّسات؟

 

لا شك أنّ أهمية «اعلان بيجين» تكمن في الشكل قبل المضمون، حول قدرة الديبلوماسية الصينية على المبادرة في ظل انهماك القوى الكبرى بمشاكلها وعجزها عن الاقدام، وتنمّ عن نجاحها في السياسة الخارجية في ظل إخفاق الآخرين، وفي التأكيد على دور الصين الأساسي على الساحة الدولية، والقدرة على الاستثمار في هذا الدور على أنّه وسيط موثوق، وليس طرفاً في النزاعات. في الأمس مع السعودية وايران، اليوم في القضية الفلسطينية، وربما غداً في الحرب الروسية -الأوكرانية، يوماً بعد يوم تثبت الصين أنّها لاعب أساسي، متمدّد وفاعل من خلال القوة الناعمة والديبلوماسية الاقتصادية، ركنان أساسيان في السياسة الخارجية الصينية، تحقق من خلالهما التوازن على الساحة الدولية، وتحقق نقاطاً اضافية في معركة تثبيت التعددية القطبية على الساحة الدولية.

 

بذلك يكون «اعلان بيجين» وما ستليه من خطوات صينية ديبلوماسية، أبعد من المصالحة الفلسطينية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى