دخلت الحرب في الجنوب شهرها السادس من دون أفق، بل توسعت إلى مناطق كان يفترض أن تكون بعيدة، فضلاً عن توسع لعملية الاستهدافات لتطال محافظة بعلبك، وقرى شرق صيدا ومرجعيون.
حرب المشاغلة أو الالهاء أو غيرها من المسميات التي أعلنها “حزب الله” دعماً لغزة ولحركة “حماس” طال أمدها، وبدأت تشكل حالة ضغط على اللبنانيين عموماً، وعلى بيئة “حزب الله” خصوصاً، عقب ما يجري من عمليات تهجير وتدمير كبير طال القرى الجنوبية الحدودية، بالإضافة إلى ضرب الحركة الاقتصادية في الجنوب، وإبعاد الطلاب عن مدارسهم.
منذ بداية الحرب بدا واضحاً أن الطائفة المسيحية بأغلبيتها الساحقة رفضت مشاركة “حزب الله” في الحرب، حتى الحليف اللدود لـ”حزب الله”، “التيار الوطني الحر” غيّر موقفه من الداعم إلى الرافض الأشرس، معتبراً أن لبنان “ليس مرتبطاً باتفاقية دفاع مع غزة”، وهذا الأمر واضح جداً في الشارع المسيحي بغض النظر عن آراء قيادته.
الواقع الدرزي متشابه إلى حد كبير مع الواقع المسيحي، بفارق أن قيادته السياسية أخذت موقف المهادنة مع “حزب الله” وعدم مجابهته سياسياً كما فعل القادة المسيحيون، فحيدت هذه البيئة نفسها عما يجري بالتزام الصمت، على الرغم من التخوف الكبير من توسع الحرب المترافق مع وضع اقتصادي سيئ.
المتحول الأكبر كان الطائفة السنية، عبر كسر حاجز التباعد مع “حزب الله”، لا بل الذهاب أبعد، في تأييد خيارات الحزب وعملياته في بداية الحرب نظراً للارتباط العاطفي مع القضية الفلسطينية، لكن هذا الخرق ما لبث أن بدأ بالتراجع بعد مدة خصوصاً مع بداية العام الحالي، وتطور الحرب في غزة، واليقين أن مشاركة حزب الله لم تخفف عن غزة التي دمرت بالكامل ولم تستطع عمليات المشاغلة لدى الحزب توقيف الحرب.
وأصبح من السهل ملاحظة الخطاب المتراجع عن دعم الحرب في الجنوب، وإن لم نشهد عودة الخطاب ضد الحزب إلى ما كان قبل عملية طوفان الأقصى، فبدأ الخطاب يغلف بالأزمة الاقتصادية وأهمية النظر إلى الوضع الداخلي بعيداً عن الإقليم، حتى الجماعة الإسلامية التي اأدت “حماسة” مع بداية الحرب يكاد ينعدم عملها العسكري في الوقت الحالي، سوى بعض التحركات الصغيرة على الهامش أوقعت 3 شبان منذ أيام قليلة كانوا يحاولون إطلاق صاروخ واحد بعد صوم استمر اأشهراً.
كما لا يمكن إغفال دور دار الفتوى التي تبدي التعاطف والتأييد لما يجري في فلسطين لكنها تركز على إبعاد الحرب عن لبنان، بالإضافة إلى رسائل الرئيس سعد الحريري المبطنة التي تحدثت عن التطرف وإبعاد شبح الحرب والتركيز على القضية الفلسطينية وعدم ربطها في لبنان.
وفي آخر دراسة من مؤسسة دولية فقد نشر معهد “واشنطن انستتيوت” استطلاعاً عن أهمية تقدم الإصلاح السياسي والاقتصادي الداخلي في الوقت الحالي من أي قضية تتعلق بالسياسة الخارجية، والبقاء في منأى عن الحروب الخارجية”، فقد بيّن أن غالبية المستطلَعين السنّة والمسيحيين وافقت على هذا الاقتراح (66% و74% على التوالي)، وافق نحو ربع الشيعة عليه (27%). ولكن 39% من الشيعة فقط يعارضون “بشدّة” هذا الاقتراح.
تبقى الطائفة الشيعية هي البيئة الأبرز الداعمة للحرب من دون شك، لكن أيضاً ما كان في بداية الحرب من حماسة، بدأ بالتراجع مع طول المدة، كثرة الخسائر البشرية والدمار الهائل في القرى، والتهجير الكبير الذي تجاوز المئة ألف نازح فضلاً عن الخسائر الاقتصادية والتعليمية الكبيرة.
في المدة الأخيرة بدأت تتعالى الأصوات الرافضة من ضمن البيئة المؤيدة، والسؤال عن الهدف من هذه الحرب بالذات، وهل المطلوب من بيئة واحدة دفع ثمن القضية الفلسطينية.
وعلى الرغم أن لا دراسة رسمية عن التدمير والخسائر، إلّا أن بعض الأرقام بدأت تظهر بشكل أولي على اعتبار أن الحرب ما زالت مستمرة وتتغيّر كل يوم، وبحسب الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين “هناك 1500 منزل دمرت كلياً و1500 جزئياً و4000 بأضرار بسيطة”، هذا على صعيد البنيان، أما بالنسبة للزراعة فالخسائر كبيرة بدءاً من موسم الزيتون إلى زراعة الخضراوات التي لم يستطيع الأهالي هذه السنة الاستفادة من أراضيهم إضافة إلى الأشجار المثمرة التي عصا على أصحابها الاهتمام بها وتسميدها وتشحيلها ما يضرب الموسم المقبل بعد نحو شهرين والذي يشكل مصدر استرزاق لفئة كبيرة من السكان، بالإضافة إلى أن الجنوب بمجمله لم يعد وجهة سياحية حتى المدن البعيدة عن القرى الحدودية والتي بلغت السياحة فيها أرقاماً قياسية، فضلاً عن الخسائر المعنوية والتربوية الكبيرة نتيجة توقف المدارس والجامعات في المناطق.
هول الخسائر، وتعب البيئة الحاضنة، يتعرضان في المقابل إلى حملة ضغوط قاسية، على كل من يعارض، أو يصدر أي موقف معارض للحرب أو حتى شكوى، وظهر العديد من الأصوات على وسائل التواصل ليعود سحبها والاعتذار، حتى إن معلمة صورت خوف الأطفال في إحدى المدارس بعد غارة تعرضت لحملة قاسية دفعها للاعتذار وكأن هناك من يريد أن ينزع الشعور الإنساني من طفل لا يعرف ماذا يجري، فضلاً عن تعرض الناس التي لا تزال لشتى أنواع الضغوط في مصالحهم وأعمالهم تحت شعار”لا كلام في الحرب”.
وهنا تسأل الدكتورة منى فياض عمن سمع الرأي الحقيقي لأهالي الجنوب، فحزب الله هو حزب حديدي ومسيطر بشكل كبير على البيئة الشيعية، فإذا تجرأ بعض الناس وتكلموا عن رأيهم ولو بإطار فشة الخلق ففي اليوم التالي يجري استدعأؤهم، والاعتذار عما تكلموا عنه، ما بات يعرف يسياسة “السحسوح”، مؤكدة أن الرأي العام الجنوبي هو غير معبّر عنه على أرض الواقع.
وتضيف، “هذا لا يعني أن أهل الجنوب ليسوا مع المقاومة أو أصبحوا ضدها، فقبل حرب غزة كان الحديث عن تنعم أهل الجنوب بالسلم تحت مظلة القرار 1701، لكن بعد فتح الجبهة ما الذي جرى؟ وكيف تحولت أحوالهم؟، لافتة إلى أن “فكرة تأييد أهالي الجنوب للحرب غير صحيحة بتاتاً وليست واقعية، ما يقوله البعض على وسائل التواصل الاجتماعي لا يعني بالتأكيد أنها تعكس حقيقة الواقع على الأرض. فالذين تضرروا بشكل كبير من الحرب ونزحوا من منازلهم وخسروا بيوتهم وأرزاقهم وأعمالهم لا يؤيدون الحرب، لكن ليس لديهم أي خيار آخر إلا تأييد “حزب الله” في ظل غياب الدولة وانتظار المساعدات التي يحصلون عليها منه”.
وظهرت في الفترة الأخيرة حملة على الطرقات وعلى وسائل التواصل الاجتماعي تحت عنوان “الشيعة ضد الحرب” من دون أن تعرّف عن نفسها أو عن ناشطيها، وهي تتبنى آراء لقيادات شيعية معارضة للحرب، لكن يبدو أن نفس الضغط الذي يواجهه الأهالي دفع بتلك المجموعات إلى عدم الإفصاح عن هويتهم. في المقابل لفتت مصادر جنوبية إلى العمل الدؤوب الذي يقوم به “حزب الله” على مستوى التطمين ورفع والإبقاء على نسبة التعاطف عبر التأكيد المتكرر على تعويض الحزب للمتضررين مادياً وإعادة بيوتهم كما كانت، بالإضافة إلى سرعة نعي ودفن المقاتلين في قراهم تحت النار لإحياء روح التعاطف والانتقام ممن تسبب في موت هؤلاء، وهذا لم يقم به في الحروب السابقة.
وعلى هذا الأمر يعلق مقربون من الحزب بالقول: “يدرك الخصوم والأعداء لحزب الله أن بيئته الحاضنة وعلى الرغم من تذمرها وانتقادها وهلعها بسبب الحرب والأزمة الحالية، إلّا أنها، لن تتخلى عنه ولن تتركه. باختصار البيئة الحاضنة هي ذاتها ولن تتغير، تتذمر وتشتكي وتُعلي الصوت صراخاً، لكنها لن تتخلى عن قيادة جامعة، يدرك أبناؤها أنها الدرع الوحيد الحامي لهم من أعداء الداخل والخارج”.
المصدر – النهار