لم يكن ممكناً إدراج اللقاءات المعلَن عنها والمتستَّر عليها بين رئيس مجلس النواب نبيه بري وعضو تكتل “لبنان القوي” النائب غسان عطاالله ، في خانة الحراك السياسي اليومي والطبيعي الذي لا يحتاج الى التوقف عنده والتبصّر بأبعاده.
صحيح ان هذه اللقاءات تجمع بين رئيس السلطة التشريعية وعضو في تكتل نيابي، إلا انها تبدو أمراً مثيراً للاهتمام يتعين التنقيب عن خلفياتها وما يمكن ان يُبنى عليها مستقبلا، اذا ما تم وضع هذه العلاقة المتجددة شكلاً ومضموناً في سياقها التاريخي المشحون دائما بموجة توتر ظلت تتفاعل الى الأمس القريب وتركت انعكاساتها السلبية على المشهد السياسي اللبناني طوال عقد ونصف عقد من السنين.
من المعلوم ان صرح الرئاسة الثانية في عين التينة قد فتح ابوابه اخيرا للمرة الخامسة (وربما السادسة) على التوالي لاستقبال عطاالله، منذ ان شغل المقعد الكاثوليكي الوحيد عن دائرة الشوف – عاليه في دورة الانتخابات النيابية الاخيرة.
وبهذا، والحال هذه، صار لزاماً على المتابعين ان يعتبروا ان هذه اللقاءات قد باتت دورية منتظمة، واستطرادا تحولت الى حوار مفتوح بين قوتين سياسيتين ساد التوتر والصراع والتباين العلاقة التاريخية بينهما لأعوام خلت، الى درجة ان ثمة مرحلة في دورة الحياة السياسية المتأخرة في البلاد قد وُسمت بهذا الصراع الذي كان ينفجر احيانا كسجالات سياسية واحيانا اخرى خلافات في الشارع تجسدت احدى محطاتها في “غزوة” نظمها محسوبون على حركة “امل” نحو بلدة الحدت المتاخمة للضاحية الجنوبية والتي كانت في حينه أحد معاقل التيار العوني، من دون اغفال ان ثمة مجموعات اخرى محسوبة على الحركة ايضا ذهبت في غزوة مماثلة الى امام المقر المركزي للتيار في ميرنا الشالوحي في رحلة استفزاز وتحدّ.
فضلاً عن ذلك، ان التيار عندما كان يبحث لنفسه عن اسباب تجعله يشكك بجدوائية استمرار تفاهمه مع “حزب الله” فانه كان يسارع الى اطلاق خطاب سياسي فحواه ان الحزب لا يجاريه في رحلته لاجتثاث مظاهر الفساد والافساد في الدولة ومؤسساتها لأنه لا يبدي ايّ استعداد لفتح اشتباك مع حليفه التاريخي الرئيس بري وحركة “امل”.
بناء على كل هذه المعطيات والوقائع التي لم يمر عليها الزمن، يصير التساؤل عن أبعاد هذه اللقاءات المتواترة بين بري وموفد التيار والتبصر في احتمالاتها المستقبلية أمراً مشروعاً جداً، بل ويصير رفعه الى مقام الحدث أمراً بديهياً.
ومعلوم ان هذا الحوار المبدئي قد انطلقت قاطرته عمليا في اللحظة التي اظهر فيها “التيار البرتقالي” تبرّماً وضيقاً من موجبات تفاهمه المعلن مع “حزب الله” في شباط عام 2006، وبدا وكأنه مع دنو موعد خروج مؤسسه العماد ميشال عون من قصر بعبدا إيذانا بنهاية ولايته الرئاسية، قد اتخذ قرارا نهائيا بالمضي الى أفق سياسي آخر “يضمن له” تحرره “من موجبات وتعهدات مرحلة قد ولّت، خصوصا انه خرج خاسرا ومهشّما رغم انه نجح في ايصال مؤسسه الى سدة الرئاسة الاولى، ورغم انه استأثر على مدى اكثر من عشر سنين بالحصة المسيحية الأوزن في الدولة وزراء ومسؤولين كبارا.
وعليه بدا التيار وقد انطلق كالسهم في رحلة ذات خطين متوازيين:
– تحولات سياسية جلية بدت وكأنها انقلاب على علاقته التاريخية النمطية بالحزب، والتي عُدّت يوما عقداً سياسياً غير مسبوق.
– انفتاح على قوى وبيئات ومواقع سياسية كانت الى الأمس القريب مدرجة عنده على لوائح القوى المعادية والتي لا يمكن إلا مقاطعتها وسد الابواب امام اي علاقة معها.
وبمعنى آخر، وجد التيار نفسه في لحظة ما في حاجة ملحّة وعاجلة الى اخضاع ادائه وسلوكه السياسي منذ فوزه الكاسح في انتخابات عام 2005 لاعادة نظر لكي يؤمّن موقعا وحضورا في ساحته المسيحية بعد تآكل وتراجع مشهودين.
واذا كانت تلك باختصار الدواعي التي املت على التيار الانفتاح المتدرج والسلس على عين التينة وما تمثل، فمن البديهي ان ذلك تلاقى مع استعدادات كانت موجودة عند بري وحاضرة في حساباته ايضا املت عليه تهديم العديد من الاسوار التي وضعها منذ البدايات بينه وبين التيار والتي جعلته يأخذ موقع الطرف وتسقط عنه صفة التوسط والانفتاح على الجميع.
لذا ثمة من يرى ان بري الذي بدأت علاقاته دافئة مع حزب “القوات اللبنانية”، قبل ان تنحدر نحو الدرك الاسفل اثر احداث الطيونة، اضافة الى مستجدات أثّرت سلبا على علاقته ببكركي، خصوصا ان الاخيرة اشارت اليه باصبع الاتهام المباشر بعرقلة انتخاب الرئيس، قد وجد في العلاقة الجديدة والاوّلية مع “التيار البرتقالي” ضالته المنشودة لكي يدحض عن نفسه اولا تهمة الانعزال النهائي عن الشارع المسيحي، ولادراكه ثانيا ان هذا التقارب هو موضع ترحيب من شريكه في الثنائي الشيعي “حزب الله” الذي يبذل جهودا بغية الحفاظ على حد معقول من العلاقة مع التيار المتمرد على تفاهمه معه.
لكن النائب عطاالله المتولّي للقاءات الدورية مع الرئيس بري، ينظرالى الامر من منظار آخر، فهو يؤكد في حديث مع “النهار” ان رحلاته المكوكية الى عين التينة وعلاقته المنفتحة والواعدة مع سيدها، لم تكن بالاصل ابنة المرحلة الاخيرة، فهي تعود الى ايام كان فيها وزيراً، ثم تعززت بعدما انتُخب نائبا عن الشوف في الانتخابات الاخيرة “حيث طلب بري مني ان اكون رئيسا للجنة الصداقة اللبنانية – الغانية، اذ قال لي يومها إنني حريص اشد الحرص على تمتين العلاقة مع دول القارة الافريقية، لذا اخترتك ان تتولى هذه المهمة”.
واضاف عطاالله: “ومنذ ذاك الحين اظهرتُ حرصا على استمرار العلاقة والتنسيق معه وعلى الاستفادة من هذا الوضع لترطيب العلاقة بينه وبين التيار الذي أنا أحد نوابه. ومن هذا المنطلق كان حرصي على توضيح الصورة وازالة اي التباس وتبديد اي سلبية تظهر. وهذا ما فعلته عندما اوضحت للرئيس بري ان موقف رئيس التيار النائب جبران باسيل من المبادرة الحوارية الاولى التي قدمها بري بُعيد بدء الشغور الرئاسي ليس رفضا مطلقا بل هو عبارة عن ملاحظات يبديها غايتها الاساس ان تكون المبادرة طريقا مضمونا لطي صفحة الشغور الرئاسي”.
ورداً على سؤال عن توقعاته من نتائج هذا الحوار، اجاب عطاالله: “ما زلنا في مرحلة توضيح الصورة سعياً الى وضع الامور في نصابها الطبيعي والتأسيس لعلاقة ثابتة ومستقرة، لذا لا يمكن اطلاق وعود حازمة بنتائج ملموسة قريبا”.
واستطرد: “في لقاءاتي الاخيرة مع دولته نقلت اليه وجهة نظرنا القائمة على امرين:
– ان الصراع الاقليمي المحتدم هو صراع يبدو بلا افق زمني، لذا يتعين علينا كأفرقاء لبنانيين ان نبادر الى بذل جهود للحيلولة دون امتداد النار الى العمق اللبناني من خلال العمل الجاد لتحصين الداخل، ومبتدأ الامر يكون بانتخاب رئيس جديد واعادة تكوين سلطة ثابتة وشرعية”.
– كما اكدت ضرورة ان تجد مبادرة كتلة “الاعتدال الوطني” تحصينات وحوافز داخلية تسمح لها بالاستمرار”.
واشار عطاالله الى ان زياراته لعين التينة “لا تنحصر فقط بهذين الملفين رغم اهميتهما، بل لدينا رغبة في ان تكون مقدمة لفتح ورشة نقاش وحوار حول العلاقة المستقبلية بين التيار والحركة، الى ملفات اخرى من شأنها تطوير النظرة المشتركة الى ملفات اساسية بحاجة الى توافق وطني، خصوصا ان احدا لا ينكر حراجة المرحلة في المنطقة عموما بفعل العدوان الاسرائيلي الوحشي على غزة”.
ابراهيم بيرم – النهار