أدى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى سماحة العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة في مقر المجلس بعد أن ألقى خطبة الجمعة التي جاء فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله الطاهرين وأصحابه المنتجبين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين والشهداء والصالحين، والسلام عليكم ايها الاخوة والاخوات المؤمنون والمؤمنات ورحمة الله وبركاته.
يُشكّل مبدأ وحدة الأمة أهمية خاصة في التشريع الإسلامي في إطار الاجتماع السياسي العام القائم على وحدة الاعتقاد (الأصول الاعتقادية التي تتلخّص في الاعتقاد بالألوهية والوحدانية والعدالة والنبوة واليوم الاخر يوم الحساب)، ووحدة الشريعة في إطار العقيدة التي تتلخّص في التكاليف للجماعة وللأفراد غير المنفصلة عن إطار الاحكام للجماعة بل المنسجمة معها والمتكاملة معها، ووحدة الأهداف وهي صناعة الأمة التي هي خير أمة أُخرجت للناس، فهي أمة لم يقتصر الامر فيها أن تكون خير الامم وكفى بل أمة ذات وظيفة تتعلّق بسائر الامم كما تبين الآية المباركة: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ).
فهي خير أمة أخرجت للناس لتُشكّل بما تحمله من قيم أخلاقية وإنسانية كما تُعبّر عنها كلمة (خَيْرَ أُمَّةٍ) الذي هو تعبير أخلاقي يُجسّد النموذج الالهي الافضل والأرقى المُكلّف بدعوة سائر الامم للاقتداء به.
وهو المعنى الذي تتضمنه الآية المباركة الاخرى وهي قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا).
ومعنى أن تكون الأمة شاهدة على الناس أن تكون الحجة عليهم بعد دعوتهم إلى اتباع الحق وإقامة اجتماعهم وفق النموذج الإلهي، وهو الإسلام عقيدةً وشريعةً وقيماً أخلاقية ومعنوية، فهي الأمة القائدة والحاملة للرسالة الإلهية التي لن يبقى أساساً لها من وجود اذا ما تخلت عن هذه القواعد والاسس الالهية المفترضة من التزام المبادئ والشريعة والاهداف فضلاً عن أن تكون الشاهدة على الأمم، بل ستكون شيئاً آخر وعلى الاقل كسائر الأمم أمة ضالة قد تخلّت عن وظيفتها بعد أن تخلّت عن الأسس التي جعلت منها النموذج الالهي لسائر الأمم مما أفقدها هذا التميز فكانت (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ).
إنّ قول الله سبحانه وتعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) لم يكن كما أفهمه وصفاً لأمة موجودة وإنما لأمة مفترضة، فهي لم تتحقق على الإطلاق إلا بالشكل، فقد سعى رسول الله (ص) والمخلصون ممن آمن معه أن يحققوا هذا الوجود لهذه الامة ولكن لم يفلحوا إذ سرعان ما انكشف الستار عن الانقلاب على الأهداف بالاهتمام بالسلطة والزعامة على حساب المبادئ العقائدية والشريعة والأهداف التي تعرضت للتلاعب والتشويه خدمة للسلطة ومصالحها، وبدلاً عن أن يُبذل الجهد لتحقيق الأمة التي أرادها الله خير الأمم، الامة الشاهدة على الأمم، تحوّل الجهد الى استخدام ما تحقق لأهداف سلطوية ذات نزعة قبلية، وتحوّل الهدف من تكوين أمة هدفها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى أمة السلطة والحاكم يستخدمها لتحقيق أغراضه السلطوية بدل أن يكون خادماً لأهدافها المفترضة في الشهادة على الأمم.
غير أن هذا الانقلاب لم يمرّ بسلام ولم يُترك دون مواجهة، فقد تصدى له أئمة أهل البيت (ع) ليس من باب النزاع على السلطة وإنما كرّسوا جهدهم لتوجيه المسلمين وحماية دينهم وعقائدهم من التحريف والتشويه لمنع السلطة من استخدام الدين غطاء استغفالاً لهم لتحقيق أغراضها السلطوية.
أيها الأخوة،
لقد استطاع أئمة أهل البيت (ع) أن يحققوا الهدف الذي أرادوا تحقيقه وهو الحفاظ على سلامة الرسالة بالتصدي لمحاولة التشويه والتحريف لتبقى الحجةُ على الناس كما هي وظيفة الرسل والاوصياء (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ).
إنّ مجتمعاتنا العربية والاسلامية لم تزل تتعرض بيئاتها الثقافية والاجتماعية في كل تاريخها إلى محاولات التضليل والتحريف والتفكيك الاجتماعي للقضاء على ما تبقى من بنيتها العقائدية والثقافية والاجتماعية التي صمدت على الرغم من كل المحاولات التي تعرّضت لها من داخلها من قبل الانظمة المتعاقبة والسلطة الجائرة، فقد ازداد الامر خطورة في العصر الحالي إذ تحوّلت بعض الانظمة الحاكمة إلى خادم للمشاريع والمخططات الاستعمارية الغربية الهادفة إلى استكمال السيطرة على العالم العربي والإسلامي عبر إتاحة الفرصة له إعلامياً ومادياً وثقافياً وعبر تحويل هذه البلاد الى قواعد عسكرية ومراكز استخبارية تعبث بحرِّية بوحدتها وثقافتها وأمنها عبر نشرة ثقافة الفساد وترويج المخدرات وإثارة الفتن الاثنية والطائفية والمذهبية، ومما يؤسف له أن تستطيع بهذه الاساليب أن توجد انقسامات داخلية بعضها يقوم بتحقيق أغراض هؤلاء ظنّاً منهم أنهم يحققون بذلك مصالح انظمتهم الفئوية والبعض الآخر يقوم بدور العمالة للعدو لأغراض شتى.
وكان يوجد على الدوام مخلصون لأوطانهم ومجتمعاتهم وثقافتهم من قاوم بإخلاصٍ وتفانٍ حتى الشهادة في مواجهة هذه المحاولات، وقد استطاع هؤلاء الافذاذ إفشال هذه المخططات إلى حد بعيد.
أيها الأخوة،
إنّ التحدي الكبير الذي يواجهنا اليوم هو التحدي الغربي الذي فشل في تثبيت الكيان الصهيوني في فلسطين كدولة طبيعية في المنطقة كتأكيد على بقاء سيطرته عليها بعد فشل مشروعه التجزيئي عبر الفتن المذهبية والطائفية التي تركت آثارها في الفترة الماضية، وهو بدأ اليوم يخوض معركة بقائه عبر العدو الاسرائيلي بشكل مفضوح وشفّاف أمام العالم كله رغم الإدانات الدولية ومؤسسات الأمم المتحدة بارتكاباته وجرائمه الوحشية من قتل المدنيين العُزّل وقصف للبيوت والمؤسسات الدولية والمدنية بحماية منه باستخدام الفيتو في مجلس الامن وحده في مواجهة بقية الأعضاء وممارسة الالاعيب وادّعائه الوساطة فيما يعمل لتحقيق أهداف العدو الاسرائيلي في لعبة مفضوحة.
أقول إن الولايات المتحدة بدأت مضطرة إلى خوض هذه الحرب بشكل فاضح ومكشوف بعد ان استطاعت قوى المقاومة من فضحها، ولذلك فإنها تستخدم كل ما لديها من أجل الخروج من هذا المأزق الذي وضعتها المقاومة فيه بما في ذلك الحرب النفسية بالتطبيل باستخدام ما استجلبته من أساطيل، وما يقوم به أُجراؤها من داخل العالم العربي من تهويل، فما الذي يمنعها من استخدامها اذا كانت مطمئنة للنتائج؟ وقد سبق لها ان اجتاحت العراق وافغانستان من دون استئذان.
يبقى أن تكون بيئتنا الداخلية قوية متراصّة لئلا نؤكل منها، فحذارِ حذارِ والانتباه كل الانتباه ولا يجوز أن نغفل عن أي حدث مهما كان صغيراً يُفعل في داخل بيئة المقاومة فإنها المقصودة اليوم وعليها عين العدو وأيّ خلافات عشائرية أو عائلية هي في تربص العدو الذي يجعل منها منفذاً يدخل منه، عدا أن نأخذ بالحسبان أن المؤمنين كالجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، وأن نحتكم لشرع الله (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) وإياكم والظلم.
يا أبناء علي من العشائر الكرام أُخاطبكم بقول سيدكم وسيد المسلمين ومن تنتمون اليه الإمام علي (ع) ماذا يقول: ” وليس شئ أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإن الله سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد”
أيها الأخوة،
إنّ الأعداء يتربّصون لإضعاف شعبنا ووطننا فلا نكون من المساعدين على أنفسنا فأنتم من نعتمد عليه في الشدائد وأنتم والله الكرام تبذلون الغالي من المهج والارواح شهداء للوطن، فلا يجوز أن يُترك البعض ليخطأ الطريق، فلا يجوز أن نرخص الأرواح للعابثين، لقد سننتم سنة حسنة وحصرتم المشاكل بين المباشرين لها ومن لديه عدو واحد يكفيه فكيف اذا كان العدو من نقابله اليوم كإسرائيل ومن معها.
ومن ثم هي دعوة للبنانيين جميعاً إلى التوحّد والتضامن، فلبنان هو بلدنا الابدي وسنعيش فيه معاً رغم أنف العدو الصهيوني الذي وحده صاحب المصلحة في الخلافات الداخلية، وهو الوريث الوحيد إن استطاع هزيمتنا لا سمح الله، وهو عدو الجميع ولن يسمح بأن يشاركه أحد وهذه فلسطين والشعب الفلسطيني أمامكم رؤي العين وما حصل في العراق وسوريا حيث ساوى في ظلمه بين الجميع.
ولذلك أدعو الجميع في هذا الوقت الذي يتعرّض فيه الوطن للتهديد والعدوان الصهيوني الى التضامن الوطني بعيداً عن الحسابات الخاصة وتقديم المصلحة الوطنية على ما عداها.
(قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ * فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ).
(وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ).
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم المرسلين وآله الطاهرين، ربنا اغفر لنا ولمن صَلُح من آبائنا وذرياتنا ولجميع المؤمنين والمؤمنات، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا واعفُ عنا واغفر لنا وارحمنا انت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.
2 5 دقائق