
ينتمي اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة إلى اضطرابات النمو العصبي، وهو حالة بيولوجية تبدأ في الطفولة، وتؤثر على الوظائف اليومية.
في بيتٍ صغير مزدحم بالأصوات والركض والضحك والنوبات المفاجئة من الفوضى، تعيش المصرية سلمى علوان مع أبنائها الثلاثة، الأكبر 16 سنة، وتوأمان في الثامنة يعانيان اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة (ADHD). تصف يومها بأنه “ماراثون لا يتوقف”، فكل لحظة تحمل تحدياً.
يصف الغرباء توأميها بـ”الشقاوة الزائدة”، لكنها وحدها تعرف الحقيقة، فما يراه الناس اندفاعاً غير مبرر هو في الواقع اضطراب عصبي يجعل السيطرة على الانتباه أو الحركة مهمةً تفوق قدرتهما. تؤكد سلمى بصوتٍ متعبٍ لكنه مفعم بالإصرار، أن حياتها مع ابنها الأكبر تمضي بهدوءٍ نسبي، بينما التوأمان يحتاجان إلى مجهود مضاعف، في المذاكرة واللعب، وحتى في الذهاب إلى الحمام، أو تناول الطعام، فلا شيء يحدث ببساطة.
في المدرسة، لا يمكن تركهما وحدهما؛ فهما يحتاجان إلى مدرس مخصص لهما للاهتمام بحالتهما، ومع كل خطوة تعليمية، هناك خطوة مالية، فليست كل المدارس تقبل الأطفال المصابين بهذا الاضطراب، والمدارس التي تفعل تطلب رسوماً إضافية، فضلاً عن نفقات العلاج، وجلسات تعديل السلوك وتنمية المهارات وصعوبات التعلم. تقول سلمى: “كل شيء في حياة الطفل المصاب بفرط الحركة يكلف وقتاً وجهداً ومالاً”.
تخوض المصرية سالي أحمد، تجربة مشابهة في الكويت، فلديها ولدان، أصغرهما في الخامسة، وهو مصابٌ باضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه. تصفه بضحكة متعبة قائلة: “لا يمكن السيطرة عليه، فهو دائم الحركة، ولا يهدأ لحظة واحدة. نشاطه وحماسه يخلفان كوارث صغيرة، وإصابات، وتلفيات، ومشاكل يومية”. ورغم أن وضعها المادي يسمح لها بإدخاله مدرسة مجهزة للتعامل مع حالته، لا يخلو الروتين اليومي من الفوضى، إذ يعود من المدرسة بملابس ممزقة، أو أدوات مفقودة، أو كدمة جديدة، ليقضي أياماً بين المستشفى والمنزل.
أما خديجة إبراهيم، فتحولت قصتها مع ابنها المصاب بالاضطراب ذاته في إحدى المرات إلى موقف يصعب نسيانه. إذ كانت في المطار، عائدة من السعودية حيث يعمل زوجها إلى مصر لقضاء عطلة الصيف، ووسط الزحام، بدأ ابنها يعبر البوابات، ويتجاوز الحواجز فجأة. تقول: “انهرت على الأرض، وبكيت من العجز. لم أستطع السيطرة عليه، ولا حتى موظفو المطار استطاعوا ذلك، وكانت نظرات الناس كالسكاكين”.
تتباين قصص الأمهات الثلاث في التفاصيل، لكنها تتطابق في الصعوبة، فثلاثتهن يخضن معركة يومية يمتزج فيها الحب بالإرهاق، مع طفل يتحرك أكثر مما يُفترض، وأم تحاول أن تدعمه كي لا ينهار العالم من حوله. وهن يتحدين ضغوطاً نفسية كبيرة، من المجتمع، ومن المدرسة؛ ومع الانتقادات، والتنمر، وحتى نظرات الغرباء.
ويسلط العلماء الضوء على أن الجينات تلعب دوراً مركزياً في ظهور أعراض اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة، بينما من الناحية التشريحية، تشير دراسات التصوير العصبي إلى أن الاضطراب يرافقه خلل في دوائر الدماغ المعنية بالتحكم التنفيذي، كالتركيز، والتنظيم، وصنع القرار، وعلى الصعيد الكيميائي العصبي، يُعتقد أن نقصاً أو خللاً في بعض الناقلات العصبية، خصوصاً الدوبامين، من أهم العوامل التي تشرح صعوبة الانتباه والاندفاع، ما يفسر جزئياً فعالية الأدوية المنشطة التي تعمل على زيادة توافر هذه المواد.
تلخص الطبيبة المتخصصة في طب نفس الأطفال والمراهقين، منى محمد، المعايير الأساسية للتشخيص، قائلة لـ”العربي الجديد”: “يجب استيفاء عدد من الأعراض المستمرة التي تسبب ضعفاً وظيفياً واضحاً، وينبغي أن تظهر في سياقين أو أكثر من حياة الطفل، كالمنزل والمدرسة، ولا يمكن الاكتفاء بظهور بعض الأعراض العرضية أو المؤقتة. تنقسم الأعراض بين نقص الانتباه من جهة، وفرط الحركة والاندفاع من جهة أخرى، ويتم تحديد النمط السائد إن كان النقص، أو الاندفاع، أو كليهما”.
وفي ما يخص أساليب العلاج، توضّح الطبيبة قائلة “للأطفال تحت سن الخامسة، يُعدّ تدريب الأبوين أولى الخطوات الموصى بها، وفي هذه المرحلة يلعب الأم والأب دوراً بالغ الأهمية في تحسين حالة الطفل، بينما في سن المدرسة قد يكون العلاج الدوائي المبكر ضرورياً، خاصة مع شدة الأعراض أو تداخلها مع الأداء المدرسي والاجتماعي، ويأتي العلاج السلوكي المعرفي في مرتبة تالية، ويُستخدم خصوصاً مع الكبار للمساعدة في إدارة العواطف، وتحسين تقدير الذات، وتطوير استراتيجيات تنظيم الوقت”.
وفي دراسة بعنوان “الحدوث العالمي لاضطراب نقص الانتباه مع فرط الحركة بين الأطفال”، استُخدمت بيانات من دراسة “عبء الأمراض العالمية” للفترة من 1990إلى 2019، وكشفت أن معدل الإصابة لدى الفتيان بلغ 307.9 لكل 100 ألف طفل، ولدى الفتيات كان 114.4 لكل 100 ألف فتاة، أي نحو ثلاثة أضعاف. ويظهر الاتجاه العالمي انخفاضاً طفيفاً سنوياً في معدل الإصابة لدى الفتيان والفتيات على حد سواء بنسبة 0.4%.
وتُرجّح الدراسة أن ارتفاع المعدلات في الدول المتقدمة لا يعني بالضرورة زيادة حقيقية في معدلات الإصابة، بل يرتبط غالباً بزيادة الوعي والتشخيص المتاح، وتطور أدوات الفحص السلوكي والعصبي، وتوفر خدمات الصحة النفسية في المدارس ومراكز الرعاية الأولية.
في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أظهرت البيانات معدلات متوسطة تراوح بين 180 و230 حالة جديدة لكل 100 ألف طفل سنوياً، مع اتجاه طفيف إلى الزيادة خلال العقدين الأخيرين، يُحتمل أنه نتيجة تحسّن أدوات التشخيص. في مصر مثلاً، لا توجد أرقام رسمية محدثة، لكن دراسة محلية صدرت في عام 2014، أشارت إلى أن معدل الانتشار المجتمعي بين أطفال المدارس الابتدائية في محافظة المنوفية بلغ 6.9%، مع نسبة ذكور أكبر.
ويتسق هذا مع الاتجاهات العالمية، إذ يلاحظ أن الذكور أكثر عرضة للإصابة من الإناث، نتيجة كون الأعراض الحركية والاندفاعية أكثر وضوحاً لديهم، في حين يُحتمل أن تمر الأعراض المتركزة على تشتت الانتباه لدى الإناث من دون تشخيص.
وتؤكد التحليلات المجمعة من الدراسات المحلية أن الفجوة بين معدلات الانتشار المجتمعي تعكس تحدياً مزدوجاً في نظام الكشف والتشخيص المبكر في مصر، إذ ما تزال الرعاية الأولية والمدرسية تفتقر إلى بروتوكولات موحدة لتحديد الأعراض السلوكية. نتيجة لذلك، تُكتشف إصابة العديد من الأطفال بعد سنوات من المعاناة الدراسية والسلوكية، ما يزيد العبء النفسي والاقتصادي على الأسر، ويضاعف الحاجة إلى التدخل.



